الرئيسية / المقالات / صاحب “العلبة” بقلم: فجر عاطف صحصاح

صاحب “العلبة” بقلم: فجر عاطف صحصاح

خرج الفتى الغض من منزله وهو عازم أن يتنقل بعينيه في الأفق وقت الغروب؛ فقد كانت بؤرة متسعة من المرارة والألم، وهوة عميقة من الفقد تحدو به إلى أن يخرج مضطربا حائرا لا يملك طريقا يمسك به وليس له وجهة حتى يهم إليها؛ كل ما جال في خاطره أن ينظر في تلك الصفحة الممتدة من السماء والتي يفر بعينيه إليها دائما عندما يُلم به أمرا، ويعجب أن يغفل عنها أصحاب الهموم وينشغلون بمواقعهم من الأرض وما عليها، وهم لو نظروا فوقهم بقليل فحتما سيجدون في الأعلى متنفسا وملاذا..!

أخذت نسمات الأفق تداعب عينيه فسمح لهما أن يستريحا قليلا مما يحملناه من ثقل؛ أغمض جفنيه فتساقط الدمع سيلا يجري وكأنه اندفع من عليّ؛ لم يكن به نحيبا أو نشيجا؛ كل ما كان به دفعة من ألم انزاح عنها ستارها فتكشفت، وقد كان من قبل يسجنها ويأسرها آبيا إلا أن يغلق عليها جفنيه كي لا يذيعا سره لأبويه فيلعما ما ألمّ فؤاده الصغير من علة مبعثها ما بات يستشعره في حداثة سنه من فقد للحنان والاحتواء؛ فقد كانت الحياة تمضي به على أول عهده به خشنة جافة لا يتبدى فيها ممن حوله ربتة على الكتف تعضده، أو مسحة على الرأس فتواسيه.. استثقلت نفسه من وجدانه الشجي كثيف الرقة، وخرج هائما يبحث له عن نديم في سبحات الطبيعة وظلالها الوارفة..!

حاول الفتى بضراوة أن يخفي أثر ما أصاب مقلتيه من سيل، وإذ هو يكابد؛ فقد عاد بناظريه إلى عالم الأرض مضطرا بعد أن ارتطمّ بهذه الكومة من القُمامة تقطع الطريق؛ تحاشها مخافة أن تزل قدميه فيها؛ ثم ما لبث أن عاد إليها سريعا بنظره، وكأن به وخز من إبر؛ فقد وقع بصره على هذا الرجل الأشيب منحنى الظهر، وقد أخذ يفتح أوعية القمامة واحدا تلو الآخر؛ لم يكن عامل نظافة جاء لإزالة الأذى عن الطريق، ولم يكن كذلك مشردا ضالا من ساكني الشوارع والطرقات، كان يبدو من ملابسه كرجل بسيط؛ بعض الأثر عليه فقط من ثياب رثة وأيدٍ كستها آثار الأوعية التي تفتحها حتى ارتوت.. كان الرجل جادا في بحثه مجتهدا منكبا عليه وكأن فيه ملاذه الأخير.

تُرى..؟ -هكذا تساءل الفتى في نفسه-.. فلربما كان تاجرا أتى لالتقاط بعضا من البضاعة الزهيدة، فيبيع ويكسب بلا كثير من مشقة، ولكن.. هذا الفرض سيحسمه ما سوف يستخرجه الرجل بعد كل هذا البحث.

انزوي الفتى في مكان ليس ببعيد، خشي أن يجرح الرجل بشدة متابعته وملاحظته، وإن لم يكن يظهر على الرجل أي اكتراث أو انتباه بمن حوله، من جانبهم أيضا عابرو الطريق لم يستوقفهم المشهد ولم يعيروه الكثير من الاهتمام.. وكأنه أمر مألوف  اعتادت عيونهم على رؤية مثله كثيرا؛ بخلاف الفتى الذي كانت نواظره ما زالت في غفلتها الأولى، ومن ثم تتلقي حوادث الأيام بشَدَه وتعجب بعيدين عن حاجب الإلف الذي يضع على قلوب غيره حواجز صماء صخرية فتوقف عن أعينهم وأسماعهم مسرى الدماء فتتبلد..!

ظلّ الفتى الغض يتابع رحلة الرجل المنكفئة على بحثه، ثم فاجأه الرجل باستخلاص رغيفين من الخبز من إحدى كومات القمامة، مسح الفتى عينيه كثيرا، واتهمها بضعف البصر، أو ربما قد أمرضه بكاءه القريب فأنزل سترا بينه وبين الرؤية الصحيحة..!

ولكن.. وماذا يفعل الإنكار، فالأمر بدا واضحا لا مراء فيه، استخلص الرجل رغيفي الخبز وفقط، فقد كانا على ما يبدو هما كل مأربه وسبب سعيه، فرضي بما وجده وقنع..!

انتظره الفتى كي يعيد البحث من جديد، أو يضع الرغيفين جانبا ويعيد رحلة البحث على الأقل طمعا في كسب أوفر، أو حظا أكبر، ولكن هيهات.. اطمأن الرجل بما حازته يداه، وتنهد الصعداء وأنهى كفاح البحث مطمئنا قانعا.. تاركا الفتى في حيرته وقد تسارعت ضربات قلبه وتصاعدت وكأنها تصرخ في ضمير الفتى وتلح عليه: أن افعل شيئا..!!

انتفضّ الفتى لاهثا كمن يعاني سياطا لاذعة ثقيلة تلهب ظهره وتدفعه، بحث بداخل جيبه فوجد شيئا من مصروفه ما زال باقيا معه، فانطلق بما وجد لأقرب بائع طعام يمكن لنقوده القليلة أن تشتريه، ابتاع علبة من هذا الطعام البسيط، وقد كان حينها يظن أن صاحب المحل قد استغرق دهرا في إعدادها، فقد كانت عيناه على صاحب الرغيفين يتبعه وهو يسير خشية أن يفلت منه، وفي لحظات مرت وكأنها سنون، أخذ علبة الطعام، ثم انطلق خلف الرجل والذي حفظت عيناه الطريق الذي سار فيه، أخذ يركض وهو يسأل الله تعالى ألا يفلته، وبالفعل رآه  على مرمى البصر، فأبطأ الفتى وهو يكاد يوقن أنه ملاقيه، وعلى حين غرة انتحى الرجل جانبا من الطريق، تبعه الفتى سريعا، في حين لم يجد له أي أثر، انتظره كثيرا أمام جانب الطريق هذا الذي سلكه، أخذ يبحث عنه يمنة ويسرة، ولكن دون جدوى، بدا له أن جانب الطريق قد انشق فاختطف الرجل وأخفاه؛ كاد من فرط حسرته أن يبحث في باطن الأرض وفتحاتها، وقد ظلّ على حاله تلك حتى مر بعض من الوقت يسمح له أن يوقن أن الرجل قد اختفى.. ولا أثر له..!

عاد الفتى في إثره؛ وكأنه قد ترك من خلفه عزيزا فارقه فجأة ودون وداع،  وهو من خلفه الآن يتجرع مشقة البون ووحشة الطريق بلا نديم..

أفاق الفتى مما ألمّ به من حزن، ليجد “علبة” الطعام ما زالت في يده، فهو وإن لم يتمكن من اللحاق بمن كانت له، فلتكن إذن من نصيب بائس آخر، فلربما هناك آخرون بحثوا مثل الرجل في القمامة، ولم يجدوا مثله هذين الرغيفين..!

استمر الفتى سيرا في طريقه ليبحث عن هذا الآخر ليهديه العلبة، وفي الطريق لاحظ الفتى أن همه الذي أخرجه من بيته أول مرة قد تسرب…

انزوت مشاعره الباحثة عن الربتة الحانية في التفكير في قصة الرجل وما به من ألم، وكأن ينبوع الحنو الوارف الذي تورق في قلبه كان جارفا بحيث انهمر ليصل إلي غيره، في حين لم ينحسر عنه ولم يتركه قلقا ظمآنا، بل رواه وهدهد لوعة شجنه واضطراب قلبه.

صار الفتى منذ هذا اليوم نديما للعلبة، يحملها أو مثلها أينما ذهب، فعيناه لم تكن لتغفل عن هؤلاء الباحثين اللاهثين لسد حاجتهم، كذلك فهو مدين لهم؛ كونهم بددوا حيرة أيامه وصاروا ندماء لسعيه كل يوم..!

شاهد أيضاً

ترزي القوانين وتعديلات دستور العسكر!! كتبه عزالدين الكومي

“فتحي سرور” الذي تجاوز الثمانين من عمره، تاريخه معروف،فهو أحد أعضاء التنظيم الطليعى الناصرى، وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *