الرئيسية / المقالات / “عائشة”.. ذات الثلاثة وجوه كتبه سكينة إبراهيم

“عائشة”.. ذات الثلاثة وجوه كتبه سكينة إبراهيم

تعلمت من أبيها جمال الأزهار ومعني وجودها في حياة الناس؛ فطنت مبكرا أن للورود عطرا وبهاء يمكنهما أن يقلبا وحشة الليالي أنسا، وظلام الكهوف صباحا ونورا. وبعد أن غيّب الظالمون أباها لم تنس أو تغب عنها الفكرة؛ رغم أن الكثيرين حولها بذلوا جهدهم لإقناعها أن تترك ضيعتها الغنّاء، وترحل إلى حيث يبني الجميع دورا إسمنتية متراصة بلا حدائق أو مزارع حولها؛ وذلك بعد أن كسدت تجارة الزهور، في مقابل زارعة نباتات “الحنظل” – التي ألفها العامة حتى نسوا من كثرة تجرعها مذاق الحلو وطيبه -، و”الكولونيا” هذا الذي يسلبهم عقولهم ويوقعهم مسلوبي الوعي والإرادة، فيصبحوا علامة ونموذجا لتلك الجموع المشغولة عن قوة سواعدها، بساعد “كبير الخفر” يخافون بطشه، وينتظرون عطفه وعطاياه..

ولكن “عائشة” لم تقتنع بغير ما تعلمته واعتقدت فيه؛ فقد بقيت إذن على عهد أبيها تزرع الورود وتنثر عطر الرياحين وعبق أشجار الياسمين..

ثارت ثائرة تجار “الحنظل” و”الكولونيا” كيف لتلك المرأة أن تتحداهم إلى تلك الدرجة؛ فقد قرروا رواجا لتجارتهم أن الأراضي لا ينبغي لها أن تزرع الورود، وأنه لا بقاء لعبير الياسمين، أو رونق النرجس وبهاء النسرين و بهجة البيلسان، إنهم قد بذلوا أوفر عمرهم من أجل أن يقلبوا الألوان أمام الأعين بحيث ترى الأبيض كدرا مقبضا موحشا، والأسود ذكيا مبهجا أخاذا؛ وتعلموا من العلم أخسه حتى أضاعوا من فوق الشفاة طلاوة الحلو وجميل مذاقه، فلم تعد أنفس الناس تشتهيه من شدة ما غاب عنها فنسيته ورضيت بهذا المُر المقدم لها مظنة ألا سبيل سواه..ومن ثم فقد قرروا أن يحاربوا “عائشة” تلك التي تقف وحدها في مزرعة أبيها وأجداداها، فماذا عساها أن تكون سوي نموذج لهذا الضعف البشري الذي يمكن كسره وإيلامه وذله إلى أبعد حد، وهم في ذلك قد حازوا البراعة وحصّلوا أعلي العلامات..

تجمّع كبار القادة وصغارهم، واستعدوا لتلك المهمة الاستثنائية؛ فقد آن الأوان لأن تصير معاركهم “ثلاثية الأبعاد”؛ هكذا استطاعوا حشد كافة الجنود وإلقاء المحاضرات فيهم لاقناعهم بأهمية العمل الذي سيقبلون عليه، قالوا لهم: إنكم وبعد أن أتممتم مراحل تدريبكم، وشببتم عن الصغر في الوظائف والأداء، وحزتم كل الثقة من رؤسائكم، كل ذلك لأنكم لن تواجهوا منذ اليوم شخصا مفردا وفقط، ولكنكم وقد صرتم أشاوس ومغاوير؛ فقد حان ميعاد المعارك الكبيرة، والمهمات ذات الأوجه المتعددة، إن كل شيء حولنا قد صار الآن “ثلاثي الأبعاد”؛ فلماذا لا نقوم نحن أيضا بعمل له نفس تلك الثلاثية؛ فنبهر من هم أكبر منا رتبة بما صرنا عليه من مهارة وحذق، ونصبح أسوة لمن هم أصغر فيجدون فينا المثال والقدوة.

انتشي جميع الجنود وانفرجت أساريرهم بابتسامة الرضا والبشر، ووشت وجوههم بما هم عليه الآن من شدة تأهب وأتم استعداد..

اقتحمت الحافلة القرية في الليل كما اعتادوا فارين من وضح النهار لما يكشفه من حقائق ويدحضه من أباطيل؛ وحينما وصلت القوات بيت “عائشة” أشعلوا المصابيح الكاشفة فغطت المكان، وأخذ الجنود في الانتشار أعلى البيت وأمامه وخلفه حتي أحكموا إحاطته من كل ناحية وجهة، ثم “شدوا أجزاء الأسلحة” وحطموا الأبواب والنوافذ، وقفزوا سريعا في قلب البيت الذي أحالوه في لمح البصر إلي أنقاض وحطام، ثم ما كان منهم إلا أن قيّدوا “عائشة” التي اجتهدت في منعهم دون جدوي، ولم يشفع عندهم أنين أطفالها وهم في فزعهم حولها يصرخون ولا يعرفون كنه هذا الكابوس الذي اقتحم عليهم ليلهم جميعا في وقت واحد.. وبعد وقت طويل خرج الأشاوس إلي القادة وليس معهم سوي امرأة مقيدة، وهم يعتذرون أنهم لم يجدوا بقية مبتغاهم “الثلاثي” أو حتى دليل عليه؛ فإذا بالقادة يحيونهم ويشكرون همتهم وبذلهم في تنفيذ المهمة وإتمامها على أكمل وجه..!

لم يفهم الجنود ما حدث، ولكن القادة أسرعوا في اقتياد “عائشة” مكبلة معصبة العينين، حتي أركبوها الحافلة وكأنها صيدهم الثمين، وفي الطريق أبانوا للعسكر أن مجرد “عائشة” مكبلة لديهم إنما هو عمل ذو ثلاثة أبعاد: فأولها امرأة أي عَلما لهذا الضعف الذي يمكن كسره حتي يتأذي به من حوله، فيتأسون ويعزفون من بعده عن زراعة الورود إلي الأبد، أما ثانيها فأم، تحمل بين يديها همّ المستقبل الذي تلقنه لأبنائها وتحفزهم علي أن يكون مليئا بالعبير المنعش، والأزهار النضرة اليانعة، أما ثالثها فهي ابنة البستاني الذي يجب أن تُجتث مزرعته من الوادي الأخضر الخصيب برمته، حتي لا يبقي من بعده مزرعة سوي تلك التي نحن ملاكها فنزرع فيها “الحنظل” ونبيعه كما يحلو لنا.

انطلقت المركبة تشق العباب، وقد حوت “عائشة” المكبلة في قيودها؛ ولكن الغريب أنهم لم يجدوها كمظنتهم فيها تملأ آذانهم بتوسلاتها وصراخها والعويل، بل وجدوا الصمود والأنفة والشموخ والعزة، فقد كانت منادمة الأزهار قد أكسبتها الجلد وقوة الاحتمال؛ فرغم تبدل فصول العام، إلا أن الورود تبقي في انتظار الربيع الذي توقن بأنه-بعد إذن الله- سيأتي حاملا لها ترضية كافية تشفي قلبها الذي هدمه طول الخريف؛ ومن ثم فلم تستطع قيودهم أن تجرح سوى جسدا فانيا، في حين بقيت النفس قوية لا تعرف التراجع أو الإنهزام. إنهم لم يجدوا إذن تلك “المرأة” مثال الضعف التي أرادوا الإنتشاء بذلها، وإنما كانت “عائشة” لهم بمثابة المرآة التي فضحت خسة فعالهم، ولؤم طباعهم. كذلك فأمثالهم ليسوا علي عهد مع تلك الخصيصة النفسية التي هي في قلب كل إنسان تفصح عن كنهها وقت الملمة بأكثر منها في أي وقت آخر، ومن ثم فقد بوغتوا بقوة أخري لم يألفوها مبعثها ليس في البنية والعظام والعضل، وإنما في تلك المضغة التي مسكنها في الصدر من هذا الجسد..!

فرقوا بين الأم وأبنائها علّها تناسهم فينسون مع غيباها حديقة الأزهار، ولغة القيمة والجمال والعطاء، ولكنهم لم يستطيعوا أن يفسروا تلك الطمأنينة في قلب “عائشة” التي تؤكد بها دوما أن ربا حفظ أولادها وهم معها، قادر علي أن يحفظهم ويرعاهم في كل وقت وحين علي أفضل ما ترجوه لهم وتأمل، زادت علي ذلك بأن خاطرتهم عبر الأفق، وحدثتهم بقلبها بمداد الأمومة السري؛ هذا الذي لا يقوي علي كشف ماهيته أو فك شفرته أمهر الفرسان، كذلك فقد اجتهدت في نداء عليهم يحمله النسيم مع الندي كل صباح؛ كما تعملت ذلك من تلك العلاقة بين الأزهار والهواء العليل إذ يصافحها في الضحي ويحمل رسائلها الشذية فيطير بها عبر الأميال كل يوم بلا كلل أو سأم، وهكذا فقد ذكرتهم رغم البعاد، وأطلقت وصيتها بهم من خلف قضبان حديد فلبي نداءها وفطن معناه كل موقن بمعني الأبناء والمستقبل الذي يجب أن يحملوه.

حاربوا فيها ابنة البستاني، وهشموا زراعته وأرضه، واقتلعوا البنفسج وأعواد الفل وأريج اللافندر. ولكن الأزهار التي تربت في محضن الأصالة، حفظت عهدها وفية، فأبقت علي براعمها في الأرض ذاتها، وها هي تنتظر مرور السحاب الثقال حتي ترتوي فتنمو وتخضر.

كانت الحافلة إذ ذاك قد وصلت إلي حيث أصحاب القرار والمراتب الأعلي، فإذا بقادة الموقعة يقبلون مكفهري الوجوه يجرون أذيال الخيبة ويطرقون واجمين آسفين؛ حيث أعلنوا اقتياد “عائشة”و فشل المهمة..!!

شاهد أيضاً

ترزي القوانين وتعديلات دستور العسكر!! كتبه عزالدين الكومي

“فتحي سرور” الذي تجاوز الثمانين من عمره، تاريخه معروف،فهو أحد أعضاء التنظيم الطليعى الناصرى، وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *