الرئيسية / المقالات / المطارد!! بقلم: فجر عاطف

المطارد!! بقلم: فجر عاطف

زار الخريف أهل القرية؛ فاستقبلوه بكرم ضيافتهم بالترحاب والتهليل؛ ظنا منهم أنه لأيام ويرحل؛ فما لبث من حسن وفادتهم له أن مكث واستقر..!

أحال الخريف كل غصن أخضر إلى أصفر مجدب؛ ذبلت معه الأوراق والثمار، ونظرت الغصون إلى الأرض بانكسار وحزن؛ وباتت كابن بيت عريق تجبره تقلبات الدهر على أن يمد للناس يده يطلب حاجته فيريق ماء وجهه بعد أن جفت شفاهه من شدة الظمأ.

مر من الوقت ما ظنّ معه أهل القرية أن لبث الخريف أساس ومبدأ، فباتوا يظنون الأشجار ما هي إلا حطام أخشاب متراصة واقفة بالمرصاد لتحميهم وترهب عدوهم؛ ودلت الأزهار لديهم على أكمام شوك يتقاذفون به عند العراك.

ألِفت عيونهم رؤية الكون من حولهم بوجهه الخشن القاسي حتى بات الجمال لديهم مطاردا مبغوضا في مقابل الاستئناس بصفات القبح والذبول التي ما استوحشوا أبدا جوارها ومحياها..
*

اجتمع أكابر القرية في ناديهم يوم العطلة وكان نقاشهم مُنصبا حول رائحة العبير تلك المنبعثة من شرفة الرجل الحكيم؛ لم تعتد أنوفهم على رائحة ذكية مثلها من قبل؛ ومن ثم فقد جالت بخواطرهم هواجس شيطانية تنذرهم بكارثة ما قد تنبعث من تلك الشرفة إذا ظلوا صامتين على تلك الرائحة التي تزداد انتشارا يوما بعد يوم؛ ولربما أصابت الجميع بشيء من جميل ونشوة عطرها!

اتجهوا على حين غرة إلى بيت الحكيم؛ اقتحموه بلا استئذان، وأخذوا في تفتيش البيت بقسوة بحثا عن مصدر تلك الرائحة الشذية؛ وهناك في الشرفة الممتدة كانت زهور جميلة بهية قد بدأت في التفتح، فملأت بألوانها المبهجة المكان وتنوعت حتى صارت كنغمة حلوة يطرب لها الوجدان بلا ألحان.

أخذ الحكيم وهو في قمة دهشته يشرح لهم كيف أن ألوان الربيع قد حان، وأن على الرياح أن تحمل عطر الزهور لتصل به إلى القاصي والداني؛ فالربيع من طبيعته الجود والكرم، يقري ليس فقط من اقترب منه، بل كذلك يصل بشذاه الفوّاح لكل من ابتعد..
لم تسترح عيون أكابر القرية إلى تلك الإجابة أو حتى إلى مشهد الزهور الألِق؛ فأكمام الزهر عندهم مرتع الشوك، والشوك هو وقود العراك والحروب؛ فكيف الآن يقبلون بهذا الجمال يقضي على ما استقر في وجدانهم من قبح؛ فالجدب وحطب الأشجار الذابلة هي رايات القوة ووسائلها حتى وإن كانت فارغة من كل حق، وبها تسود وتقود وتأسر.

وبشكل سريع ودون انتظار لمزيد نقاش؛ امتدت أيادي أكابر القرية إلى الأزهار فانتزعتها، وإلى الورود فدفنت ما أينع منها في تربته؛ وبلهجة حادة أخبروا الرجل الحكيم بأن عليه ألا يعيد الكرة مرة أخري، فلا يحق له استقدام هذا الربيع أو ضيافته بقريتهم، فمثله بزهوره وعطره يشوه الحياة ويبعث فيها مظهر الجمال ورائحة الشذي، الأمر الذي عافته القرية منذ زمن!
*

مرت أيام طوال حتى أفاق الحكيم وتمالك نفسه من ذعر ما حدث له؛ ثم نهض عازما ألا يثنيه أحد أو يوقفه عن استقدام الربيع ومعايشة ما به من مقة وبهجة، نزل من بيته متجها إلى السوق لشراء ما يلزمه للزراعة وإنبات الأزهار، ولكنه ما أن خرج من بيته حتى انهال الناس عليه ضربا بالحجارة حتى أوجعوه، وكلما فرّ من مجموعة من الناس ابتُلي بأخرى تقذفه أيضا أو تهيل عليه التراب أو تركمه؛ وعلى الرغم من أن ألمه الجسدي كان شديدا إلا أن ألم نفسه كان أكبر بكثير؛ فقد كانوا لتوهم يعدونه حكيمهم سديد الرأي صائب المشورة؛ فكيف اليوم يقذفونه ويطاردوه حتى!!.. ودون دفاع؛ سرت شائعة الضرر المنتظر من استقدام الربيع كالنار في الهشيم، خشي منها البسطاء وقاوموها دون أن يسألوا أنفسهم عن كنه هذا الربيع وما يحمله من جمال وأريج.

أدرك الحكيم أنه صار غريبا وأن مكثه بين أهله لم يعد يجدي بعد الآن؛ لم يحمل حين رحيله الكثير من متاعه؛ لكن جلّ ما شغله أن يحمل بذور الزهر الصريع؛ حتى يحفل بالربيع في وطن آخر..!
*

كانت خطواته تسير ببطئ؛ لم يكن يحتمل ترك قريته مهد طفولته ومرتع شبيبته وصباه؛ وعلى الرغم من أن أهلها قد أغلظوا له ورموه واتهموه؛ إلا أنه ما زال يئن لحالهم يعز عليه أن يحمل بذور الربيع ليستقدمه وحده، وهم في القبح يبقون وعنه مدافعون مهللون.

وبعد تفكير.. قرر أن يستخدم الدهاء والحيلة؛ أغلق بيته وجعله يبدو وكأن صاحبه قد تركه ورحل، وفي الوقت نفسه اتخذ لنفسه كوخا متواضعا بطرف القرية في حضن الجبل.. غيّر قليلا من هيئته وملبسه فتنكر ليبدو وكأنه وافد قادم من أعلى الجبل غريب الأطوار قليل الكلام غامض مثير للجدل.

أثار فضول أهل القرية غموض هذا الرجل الوافد، وزاد من فضولهم هذا الحديث الذي يتنادى به همسا في الأسواق والمجالس عن أنه قد عرف بعد طول سفر في الجبال والقفار سر القوة وحمل معه لمنبتها البذر  اللازم.

ولأن القوة يملكها الأكابر عنوة؛ فقد صارت حُلم البسطاء والضعفاء والمهمشين، وخِلسة بدأ الضعفاء يتوافدون على الغريب بين الفنية والأخرى يطلبون منه بعضا من بذرة القوة التي يحملها؛ وعندها يحذرهم أنهم لا بد أن يتحملوا منها في البداية بعض سمات قد ينكرونها، لكنها سرعان ما ستحقق لهم مآربهم إذا صبروا عليها.

كانت بذور زهرة الياسمين هي التي اختارها لهم جميعها، زرعها البسطاء في شرفات منازلهم دون أن يخبر بعضهم بعضا، كانت البذور تنتشر كالنار في الهشيم حيث صارت أغلب بيوت القرية تزرع الياسمين دون أن تدري، سرت الجذور في تربتها وأخذت تنمو وتتورق، صبر أهل القرية على مظهر الجمال الذي كانوا يظنونه قبحا، وعلى الشذى العطر الذي لم يخالطوه من قبل.

..بعد فترة استيقظت الفطرة الطيبة في قلوب البسطاء، فاصطلحوا مع معنى الجمال الحقيقي حتى عادت بصيرتهم تميز القبح وترفضه.

وفي صباح يوم الربيع الأول.. استيقظت القرية على لون أبيض منعش بهي يعم سماءها ويورف من شرفات كل المنازل، تحاضنت أغصان الياسمين حتى طردت الخريف المستشري وتغالبت على الشوك الدفين فاغتالته بجميل البهاء وألق بياض الياسمين.. بارت تجارة الشوك وخسر تجاره فرحلوا مدبرين.

فطن أهل القرية إلى الدور الذي لعبه هذا الغريب الوافد، وإلى كنه القوة الحقيقية التي ملّكها لهم؛ فأسرعوا إليه ليشكروه، لكنهم وجدوه قد رحل عن كوخه عازما على أن ينشر عبير الربيع في كل القرى الأخرى المجاورة..!

ثم تذكر أهل القرية هذا الحكيم الذي طاردوه ظلما واتهموه.. وحزنوا أنه قد رحل عنهم، وتمنوا إذا عاد.. ليحتفل معهم باستقدام الربيع..!

شاهد أيضاً

ترزي القوانين وتعديلات دستور العسكر!! كتبه عزالدين الكومي

“فتحي سرور” الذي تجاوز الثمانين من عمره، تاريخه معروف،فهو أحد أعضاء التنظيم الطليعى الناصرى، وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *