الرئيسية / المقالات / “الحرية” درس رمضاني نفيس كتبه: سكينة إبراهيم

“الحرية” درس رمضاني نفيس كتبه: سكينة إبراهيم

تشرق شمس رمضانية جميلة جديدة صحوة، ويهم أن يخرج من بيته إلى عمله، يتذكر كوب الشاي أو القهوة الذي اعتاد ارتشافه قبل الخروج، ثم ما يلبث أن يتركه محتسبًا خاشعًا لله عزوجل ..

.. وفي عمله ترك أيضا تلك الوجبة الخفيفة التي تشتاق إليها نفسه عادة في منتصف النهار مع كوب ساخن في رفقة زملاء العمل ساعة الراحة قبل أن يعودوا إلي عملهم من جديد، تركها هي الأخرى دون اعتراض أو سخط ، بل بكل رضًا وحب ..

وقائع بسيطة لكن معناها أكبر من القهوة أو ساعة الراحة بكثير، إنها “الحرية” .. نعم “الحرية” في أول بل وأهم دروسها، إنه المعنى القائد لكل ألوان وأشكال الحرية التابعة في كل مواقف الحياة بعد ذلك، فالتحرر صناعة ذاتية تبدأ من داخل النفس وفي مخزونها الباطني، قبل أن تكون مواقف أو تجليات حركية وممارسات واقعية في مناشط الحياة المتعددة والمختلفة ..

إنها تلك النسمات العليلة التي تهب على قيظ القلب فتنعشه، وهي هذا النهر الجاري لسالك الصحراء في نهار الصيف فترويه، وهي هذا السكن الذي يؤنس صاحب الهم ويربت على كتفه فيقلب وحشته أملاً وفرحًا ..

إن درس الحرية لهو أثمن وأغلى مما يظن البعض؛ فما أن تسيطر على الإنسان عادة أو حاجة إلا وتملكته وقيدته، وحين يتعلم “الحرية”.. يهب منطلقا منفضا كافة الأسمال البالية؛ ومحطما أية سواجير تحاول إذلاله وإخضاعه؛ فيصير خفيفا كالطائر يمد جناحيه ويعزم على الوصول .. دون أن يخشى المسافة النائية، أو طول الطريق ..

يعلمنا درس الصيام أن نتحرر من .. كل خوف يسيطر على نفوسنا فيعود بنا زحفا في مسيرة الحياة مسافات ومسافات إلى الوارء، فحين نتعلم أن نتجاوز مخاوف مشاعر الجوع أو الظمأ أن تستبد بنا، نكون واعين أن الخوف مجرد هاجس ، حين نأخذ الخطوات الأولى لدفعه، تتوالى الخطوات التالية تباعا فنتعلم كيف لا نخشى من اكتساب المهارات وتعلم الجديد واقتحامه في أية مرحلة عمرية، ونتعلم كيف نقف أمام المستبد واثقين ثابتين بكلمة حق دون أن نخشى من سلطانه أو نفر من جحافله وقواته ..

يحررنا الصوم من فكرة التعلق التي تجعل الشاب يخسر من شبابه وعمره الكثير وهو حبيس مرض قلبي عضال حين يأسره هوى أرضي يحجب عن عينيه كل معنى للسعادة أو الراحة دونه، في حين أن مدرسة الصوم تفتح أمام عينيه مدى متسعا للحياة والبهجة والأمل فتُعلمه كيف يترك .. كما يسعى دوما لكيف يأخذ ، معانٍ تغيب عن صاحبها الأسير ذي التعلق بشخص أو عمل أو مكان؛ بل إن من الحرية أن نتلقى كل ضربات الحياة وصدماتها وفقد أحبتها بقلب صامد ثابت يتقلب من محنة إلى غيرها وعينيه ترصد ما فيها من حكمة وجزاء واحتساب، فلا يستسلم للأحزان أو آلام الفقد، بل يتعالى على كل ألم ويمضي حرا ثابتا قويا راسخا ..

أما عن القلق .. فحدث عنه ولا حرج، فالكثير من المستقبل في وجوم وترقب يمنع عنهم منحة التمتع بما بين أيديهم من نعم، يظل الرجل منحنيا ظهره في وظيفة لا تليق به قابرًا فيها كل مهاراته وأفكاره وطموحه قلقًا من الرزق، وطمعًا في فتات معاش ما بعد التقاعد، في حين أنه ومع بعض التحرر قد ينطلق بطموحه محركًا لطاقاته ومهاراته ليحقق بهم مكانة ومركزًا بل ومعاشًا في التقاعد أكثر مما كان يحلم وينتظر، بل إن التقاعد نفسه سوف ينساه لأنه سيبقى عمره كله يعطي ويبذل دون أن يجبره أحد على التنحي وترك الفتات .. مثل هذا الرجل كشعب يقبل بالصغار والاستعباد من مستبد ظالم، طمعًا في سكون اليوم وهدوء البال ولقمة ولو بالماء أو بقليل ملح، في حين أنه إذا استشعر حريته لعلم كيف يثور ويرفض الجور فيكون حين اتحاده أقوى من مستبده فيقلعه وحاشيته ويمتلك هو ناصية وطنه وأرضه وثرواته فيأكل حينها أفضل الفاكهة ولحوم الطير بدلاً من الملح والخبز الجاف إن هو وجده ..

يلفت انتباهنا هنا .. تلك المتلازمة الواضحة بين كل معنى إيماني أصيل يُلحظ من الشعائر التعبدية والنُسكية ذات السلوكيات الظاهرة والباطنة للجوارح وللقلب؛ ترتبط تلك المعاني بل وتتحد مع “المقاومة” بكافة مضامينها، وكأن الأخيرة ليست هي تلك الأفعال المباشرة في خط المواجهة مع الخصم أيا ما كان؛ وإنما هي في الأساس خيط ممتد من قلب الإنسان متصلاً بجوارحه، إلى أن يفيض على التحديات وصعوبات وعوائق الحياة؛ فيصل إليها حبلا سميكا صلبا لا يقوى على قطعه خصم، ثم يتمدد كأكثر من مجرد حبل عصيّ على الهضم، فيصير سلمًا صاعدًا نحو البناء والمجد ..

يحوي درس الحرية أكثر من هذا بكثير .. فالحرية كما هي تنزع من داخلنا معاني الاستعباد والأسر، تجلب لنا وتُسكن أنفسنا معاني الفخار والعزة .. فهذا الصائم القائم الذي تعالى على مطالب نفسه حتى الهام منها والأكثر إلحاحًا ، لهو في أمس الاحتياج إلى مولاه يتعرف عليه إقبالاً ودعاءً ، يتوسل إليه أن ينقي له قلبه من صغار الفكر والهم، وأن يهب له نفسًا محلقة تعرف التقوى وتتحلى بها وتقبل عليها إقبال من فهم أنها هي نعيم الدنيا وجنتها .. إنها قوة اللواذ بالله عزوجل، والعودة له، والارتماء في السجود بين يديه طالبًا منه العون والسند والمدد، وإلا عاد الصوم دون ذلك وكأنه جهد جهيد لم يترك أثرًا فيظل صاحب الهم على حاله كما ذهب، ويبقى المبتلى بقلبه المكروب كما هو .

والحقيقية أنَّه لا “حرية” بلا صبر .. مواز وملاصق لها، وبدونه لما استطاعت النفس المقاوِمة الثبات، بل ولسقطت في أول عوارض الضعف واستسلمت لذاتها الأرضية وحوائجها المقيِدة .. ومثله .. فطريق النصر ومواجهة الخصوم وأيام ذلك ولياليه الطوال .. يحتاج هذا المران على النَفس الطويل في الصبر والاحتمال والجلد .

إنَّ “حرية” تنزع كل تلك القيود، وتزرع هذا الحصن الحصين .. لهي كفيلة في الختام أن تترك في النفس هذا الأثر من السعادة، مثلها يكون كطفل أقبل على أول أيام العيد بوجه مضيء متهلل، متطيبًا لابسًا أزهى حلة، فتلك جائزة النفس حين تعيش بتلك الروح الحرة ثلاثين يومًا متتابعة فتنعم بعيد تحررها وانطلاقها في الحياة بزهو دونما عائق أو قيد .

شاهد أيضاً

ترزي القوانين وتعديلات دستور العسكر!! كتبه عزالدين الكومي

“فتحي سرور” الذي تجاوز الثمانين من عمره، تاريخه معروف،فهو أحد أعضاء التنظيم الطليعى الناصرى، وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *