فاجعة الفجر

في حياته صلى الله عليه وسلم وهديه بيان وإضاءات وومضات، ومن جملة تلك الإضاءات بيان عظيم أجر صلاة الفجر ومنزلتها في العبادات، وبيان منزلة رجلين من الصحابة وعظيم مكانتهما، وهما ابناه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما.

وبيان عاقبة المرء بعد الموت في البرزخ، تلك الحياة التي يصل المرء إلى نعيمها بمحافظته على صلاة الفجر وغيرها من العبادات، وامتثاله هدي رسول الله الأكمل الذي سلكه الحسنان وغيرهما من صحابته الكرام.

منزلة صلاة الفجر

إن للعلماء في تتبع السيرة العطرة طرائق عدة، منها طرائق الفقهاء في استنباط الأحكام، ومنها ما نشرع فيه من التتبع العام لهدية صلوات الله وسلامه عليه، فنستضيء بقدر ما أمكن ببعض سيرته، فيكون العنوان مدخلاً لما يريد أن يبث في الناس من الهدي النبوي والسيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الإضاءات هي على الترتيب: صلاة الفجر، والحياة البرزخية.

إن هدي الأنبياء الأعظم في القيام بالعبادات، والصلوات ذروة العبادات، وصلاة الفجر ذروة الصلوات وتاجها، أفردها الله جل وعلا في القرآن ذكراً فقال جل جلاله: “أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا”. (الإسراء:78)

فجعل الله جل وعلا الفرائض الأربع يتبع بعضها بعضاً، وأفرد صلاة الفجر لوحدها زماناً وأثراً، فصلاة الفجر أحد أعظم الأسباب في رؤية وجه الله تبارك وتعالى، وليس للمؤمنين غاية أعظم من أن يروا وجه ربهم تبارك وتعالى، روى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم- رأى القمر ليلة البدر فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: “إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم تلا صلوات الله وسلامه عليه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}.” (متفق عليه)

قال العلماء من المفسرين وغيرهم: (قبل طلوع الشمس) أي: صلاة الفجر، و (قبل غروبها) أي: صلاة العصر. وصلاة الفجر المحافظة عليها جماعة في مساجد المسلمين للرجال بعض دلالة على البراءة من النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: “ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا”. فصلاة الفجر مع أخواتها مما يؤدى في الظلمة تكسب المؤمن نوراً تاماً في عرصات يوم القيامة، يوم يكون المؤمن أحوج ما يكون إلى النور، قال عليه الصلاة والسلام: “بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة”.

صلة صلاة الفجر بالأحداث العظيمة في التاريخ الإسلامي
وصلاة الفجر ارتبطت في تاريخ الأمة بأحداث عظام، إما بفقد عظمائها أو بآمالها أو بآلامها، فمن تتبع السيرة والتاريخ الإسلامي كله سيجد إرثاً كبيراً في قضية صلاة الفجر، فصلاة الفجر آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل موقعة يوم بدر، فإنها كانت صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان، فكان آخر عهد من استشهدوا من الصحابة في بدر كان آخر عهدهم بالدنيا آنذاك صلاة الفجر خلف رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وصلاة الفجر صلاها النبي صلى الله عليه وسلم أيام غزوة خيبر على مقربة من خيبر قبل أن يصل إليها، فصلى -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الصبح ثم دخل على خيبر، فلما دخل خيبر بعد أن طلعت الشمس كان اليهود خارجون إلى أراضيهم ومعهم المساحي والمكاتل، فتفاءل صلى الله عليه وسلم بما في أيديهم، وقال عليه الصلاة والسلام: “الله أكبر خربت خيبر، إننا إذا نزلنا بساحة أرض فساء صباح المنذرين.”

وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة قبل وفاته، فإنه عليه الصلاة والسلام حج حجة الوداع في العام العاشر ولم يعش بعدها نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر من ثلاثة أشهر، ولما كان في اليوم الثالث عشر رمى الجمرات الثلاث وقال قبلها: “إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة” فنزل عليه الصلاة والسلام في خيف بني كنانة، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وعند السحر قبل الفجر نزل عليه الصلاة والسلام إلى الحرم، فطاف طواف الوداع ثم صلى صلاة الفجر بأصحابه وبأهل مكة، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تشرف به المهاد والنجاد يكبر على كل شرف من الأرض، فكانت صلاة الفجر آخر صلاة صلاها نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة.
وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ونبينا عليه الصلاة والسلام حي بين أظهرهم، فلم يصلوا صلاة بعد صلاة الفجر إلا والنبي عليه الصلاة والسلام قد مات وانتقل إلى الرفيق الأعلى.
ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كشف الستار الذي بين المسجد وحجرة عائشة وأطل عليهم وهم يصلون خلف أبي بكر صلاة الفجر فقرت عينه واطمأنت نفسه وتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف رغم وطأة الحمى عليه صلوات الله وسلامه عليه.
ثم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ارتبطت صلاة الفجر بكثير من الأحداث العظام بفقد عظماء الأمة، تقول السيدة الجليلة الصحابية أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنها وأرضاها: مالي ولصلاة الفجر.
وهذه الصحابية ولدت قرابة سنة ست من الهجرة، ورأت النبي عليه الصلاة والسلام ولكنها لم ترو عنه؛ لأنه مات وسنها أربع سنين، وهذه الصحابية أرادها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لنفسه ليتزوجها حتى يكون بينه وبين آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب، فكلم أباها علياً فاعتذر بصغر سنها، فلما رأى إلحاحه قال له: إني سأبعثها إليك، فإن رضيت بها فثم، فأعطاها برداً وقال لها اذهبي به إلى أمير المؤمنين، فذهبت به إلى عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلما رآها كشف عن ساقها بعد أن لمسه، فقالت له وهي لا تعلم ما كان بينه وبين أبيها، لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، فرجعت إلى أبيها فأخبرته الخبر، وقالت: يا أبتاه لقد بعثتني إلى شيخ سوء، فقال رضي الله عنه وأرضاه: يا بنية هذا زوجك، فتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه وأصدقها أربعة آلاف، ولم يكن يعطى مهر في ذلك الزمان بمثل هذا القدر، ولكن عمر رضي الله تعالى عنه كان فرحاً بأن أصبح على نسب بآل رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. فلما تزوجها عمر مكثت عنده ما شاء الله، ثم خرج عمر إلى صلاة الفجر، ثم أعيد به إلى بيته ليقال لها رضي الله عنها وأرضاها: طعن زوجك وقتل في صلاة الفجر.
ثم بعد عمر رضي الله تعالى عنه تزوجها بعض الصحابة، فخرجت مع أبيها علي بن أبي طالب إلى الكوفة، فلما كان يوم السابع عشر من رمضان خرج علي رضي الله تعالى عنه ليصلي بالناس صلاة الفجر فطعن علي وضربت عنقه وهو ذاهب إلى صلاة الفجر، فأعيد إلى بيته ليقال لتلك المرأة كرة أخرى: إن أباك قد قتل وهو ذاهب إلى صلاة الفجر. فقالت رضي الله عنها وأرضاها: سبحان الله! مالي ولصلاة الفجر.
وفي عصرنا هذا يوم الإثنين الماضي -كما لا يجهله أحد- اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين رحمه الله شيخ المجاهدين والمرابطين في عصرنا ولا نزكي على الله أحداً، اغتالته وهو خارج من صلاة الفجر، حتى قال بعض علماء العصر -وهي كلمة محمودة-: إن أول من يعزى في الشيخ أحمد أهل صلاة الفجر؛ لأن أهل صلاة الفجر في الأمة قوم مميزون، فاغتالته إسرائيل تريد أن تعرف الناس بمنطق حق القوة، وليأتين عليها يوم -بإذن الله- يعرفها فيه أهل الإسلام بمنطق قوة الحق، وشتان بين الحالتين لمن تدبر اللفظين وما يعقلها إلا العالمون.
وقد كان اغتياله رحمه الله تعالى فجيعة على الأمة ينضم مع الفارق إلى سلسلة من فقدتهم الأمة من عظمائها ومجاهديها وأمرائها عبر السنين ممن ارتبط موتهم بصلاة الفجر بعد أن أنشأ جيلاً قرآنياً في الدور والمساجد وحلقات التحفيظ، فخرج أولئك الشباب بعد ذلك بقوة الإيمان التي في قلوبهم يقفون أمام آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية وحلفائها بما أورثهم الله جل وعلا من اليقين في قلوبهم، وهذا اليقين ربوا من خلاله على سور القرآن، وإلا فإنه يستحيل عقلاً ونقلاً أن يقف أولئك الشباب والفتيان شامخين أمام العدو لو لم يكن في قلبهم من الإيمان واليقين والقرآن ما يثبتهم الله جل وعلا به.
اضرب تحجرت القلوب وليس لها إلا الحجر اضرب فمن كفيك ينهمر المطر في خان يونس في بلاطة في البوادي والحضر ولى زمان الخوف أثمر في مساجدنا الشرر في فتية الأنفال والشورى ولقمان وحفاظ الزمر فرضي الله عن كل مؤمن جاهد في سبيل الله

صلاة الفجر سبب الكينونة في ذمة الله

يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: “من صلى الفجر فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته”.

إن أعظم ما يقف به المؤمن على هدي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام مات وهو محافظ على هذه الصلاة وغيرها أعظم محافظة، حتى إنه قال في السنة القبلية التي قبلها: “ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها”، وإن من أعجب العجب أن يفقد الإنسان حياءه من ربه جل وعلا فيسهر على لهو محرم أو يمكث على الفساد أياً كانت صوره الليل كله حتى إذا دنا الفجر نام، فإذا أصبح لعمله أو تجارته أو غير ذلك خرج يرجو الرزق ولا رزق إلا من الله، ويرجو أن يأمن العواقب ولا حافظ إلا الله، ويرجو أن يوفق ويسدد فيما يقول ويفعل والمسدد والموفق والمعطي والمانع الله، فيطلب ما عند الله وقد عصاه من قبل وفرط في أعظم فرائضه، يقول الله تبارك وتعالى: “أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ. أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ. أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”. (الملك:20-22)

إن من أعظم دلائل النجاح وأسباب الفلاح أن يؤدي الإنسان -إن كان رجلاً- صلاة الفجر في جماعة مع المسلمين، وأن تؤديها المرأة أو الفتاة في وقتها في بيتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فأداء صلاة الفجر نوع من السكينة والاطمئنان وأمان، ويقع بها المؤمن في ذمة الله، وليس المراد بأن يكون المؤمن في ذمة الله أنه لا يصيبه أذى، فهذا لا يمكن أن يثبت عقلاً ولا نقلاً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الفجر يوم أحد ومع ذلك كسرت رباعيته وشج رأسه وأدمي عليه الصلاة والسلام، ولكن المقصود أن الإنسان إذا بقي يبقى على خير وعافية، وإن قبض يقبض وقد كان في ذمة رب العالمين جل جلاله، والله تبارك وتعالى خير الحافظين.

______________________________

المصدر: خطب مفرغة للشيخ صالح المغامسي.

المصدر

شاهد أيضاً

ما هي روح الصلاة؟

من الثابت أن روح الصلاة ولبها هو الخشوع وحضور القلب. هناك الكثير من الناس يؤدون …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *